الأحد، 24 نوفمبر 2013

العالم الثالث مقبرة النفايات النووية والإلكترونية

 يُثير انفجار المفاعل النووي في فوكوشيما في اليابان القلق مجدداً من مخاطر تسرّب إشعاعات المفاعلات النووية السامة وكذلك نفاياتها القاتلة، فعلاوة على التغيّرات المناخية التي يتخوّف العلماء من آثارها المدمّرة للبيئة، والناشئة عن تزايد غازات الكربون المتراكمة في فضاء الأرض ـ وهو الوجه الآخر السلبي للتقدّم الصناعي والتكنولوجي الذي يعتمد جميع أنواع الطاقة النووية والأحفورية ـ هناك أيضاً النفايات النووية والقمامة الإلكترونية (خردة أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون ومستلزماتها والشاشات والرقائق المدمجة وغيرها).
عملياً كلّ الدول الأعضاء في المنظمة (الوكالة) الدولية للطاقة الذرية  AIEA تنتِج نفايات نووية؛ لكن الغموض والكتمان يحيطان بالكميات التي تنتجها كلّ دولة من تلك النفايات، والأماكن التي تطمرها فيها. وسواء استخدمت المفاعلات النووية الطاقة النووية لأغراض عسكرية أم لأغراض سلمية فإنها جميعاً ومن دون استثناء تنتج نفايات نووية شديدة الخطورة: فخطرها يستمرّ في تهديد أشكال الحياة كافة طيلة 100 ألف عام.
الطاقة النووية من أهم الاكتشافات العلمية الحديثة الكبرى، لكنها إلى فوائدها الجمة، تنطوي على مخاطر كبرى، فقد ثبت أن المفاعلات النووية لا أمان لها حتى في الدول الكبرى التي تمتلك تقنية هائلة ومتطوّرة لصيانتها. ويتساءل علماء العالم عن جدوى الطاقة النووية إذا كانت المفاعلات النووية لا تنتج سوى أقل من 5% من الطاقة السلمية المستخدَمَة في العالم، في حين أن ما تنتجه من أسلحة نووية ونفايات سامة تهدّد حياة البشرية جمعاء؟! فمفاعل نووي بقوة 1000 ميغاوات يُنتِج في السنة 3 م3 من النفايات النووية ذات الإشعاع العالي و50 م3 من النفايات ذات الإشعاع المتوسط والخفيف. وبالنظر إلى خطورة هذه النفايات التي لم يجد لها العلماء حلاً حتى يومنا هذا سوى الطمر تحت سطح الأرض أو إلقائها في أعماق المحيطات، فإنهم يعكفون حالياً على دراسة إمكان إرسالها إلى خارج فضاء كوكب الأرض وتكلفة مشروع كهذا. لكن هذا المشروع العلمي ما زال عصياً على التحقيق في ظلّ الأوضاع الحالية لمعطيات العلم ومقدّراته. ولن يصبح قابلاً للإنجاز إلا بعد عقود من الزمن.
تبدأ السلسلة النووية باستخراج اليورانيوم. لكن جزءاً صغيراً لا يتجاوز 1% فقط من الكميات المستخرجة من مناجم اليورانيوم يُستخدَم في إنتاج الطاقة النووية. فاليورانيوم الخام المستخرَج من منجم روسّينغ في ناميبيا، على سبيل المثال، يُقدَّر بمليار طن لم يُعالج منه سوى الثلث في مصانع معالجة اليورانيوم، إذ يلزم ما يتراوح بين 500 و 3500 طن من اليورانيوم الخام للحصول على طن واحد من اليورانيوم الطبيعي المركَّز، ويتحوّل معظم الخام إلى نفايات. فليس مستغرَباً إذاً أن تحتفظ نفايات خام اليورانيوم بأكثر من 80% من إشعاعاتها القاتلة. مصدر آخر للنفايات النووية ينتج عن المرحلة الثانية: فالمفاعلات النووية في العالم كلّه اليوم تعمل باليورانيوم المخصَب أي الصالح لأن يكون وقوداً نووياً يجب تجديده سنوياً بمقدار الثلث تقريباً. الثلث المحروق، أي المستخدَم والمستبدَل، يتحوّل إلى نوع آخر من النفايات التي تبقى محتفظة بالإشعاع النووي القاتل، والتي ينبغي البحث عن مكان آمن لطمرها كي لا يتسرّب منها أيّ إشعاع نووي. كميات اليورانيوم المخصب المحروق الذي يستحيل نفايات نووية تتزايد بنسبة 12 ألف طن سنوياً، حتى بلغت 200 ألف طن في العام الماضي 2010.
وكانت قد جرت في ألمانيا والسويد استفتاءات حول الاستمرار في بناء مفاعلات نووية أو التوقف عنه، فجاءت نتيجة الاستفتاء رفض المفاعلات النووية، وطالب المستفتون بإزالة المفاعلات النووية القائمة. لذلك اتخذت السويد قراراً بتفكيك كلّ مفاعل ينتهي عمره الافتراضي (وهو 31 عاماً). أما ألمانيا التي تمتلك 19 مفاعلاً نووياً فقد طالب وزير بيئتها بتفكيك 7 مفاعلات منها على جناح السرعة لأنها لم تعد آمنة، لكن ألمانيا لا تستطيع أن تقوم إلا بما نسبته 20% من عمليات التفكيك وتحتاج إلى مساعدة من فرنسا التي وقّعت معها اتفاقيات في هذا الشأن؛ ويستغرق تفكيك مفاعل نووي واحد (أي أكثر من 100 ألف طن من الحديد والإسمنت) بين 6 و 8 سنوات. وفي فرنسا أُعلِنت نتائج استطلاع للرأي في 17/3/2011  تفيد بأن 70% من الفرنسيّين يؤيدون التخلي عن الصناعات النووية على اختلافها (راجع موقع: Europe Ecologie Les Verts على الإنترنت).
غير أن تكلفة تفكيك المفاعلات النووية البريطانية تتجاوز 100 مليار يورو، وتصل تكلفة التخزين الجيولوجي للنفايات النووية في فرنسا إلى 60 مليار يورو. كما أن تكلفة طمر النفايات النووية باهظة جداً هي الأخرى لذا يعمد بعض الدول الصناعية لتجنيب مواطنيه آثارها المدمرة للحياة، إلى التخلص من نفاياته خارج أراضيه بنقلها إلى دول أخرى. ولكن بعد فرض قيود مشدّدة على دخولها إلى هذه البلدان تحوّل مجراها إلى إفريقيا حيث تقوم الدول النووية باستخراج خام اليورانيوم من مناجم إفريقية، ثم تقوم بدفن مخلفاته (بعد تخصيبه واستخدامه في إنتاج الطاقة والأسلحة النووية) الشديدة الإشعاع، مرّة أخرى في البلدان الإفريقية. ففي إحدى بحيرات نيجيريا ـ حيث كانت تدفن هذه المواد المشعة ـ سرت إشاعة خرافية بأن هذه البحيرة مسحورة وأن كلاً من يسكن حولها يقتل أو يموت...
كانت الطريقة المألوفة في التخلص من النفايات هي تصريفها في مياه البحار والمجاري المائية أو دفنها في مدافن تحفر تحديداً لهذه العملية. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد مدافن النفايات الخطرة في الولايات المتّحدة وحدها، حوالى 50 ألف موقع. والتجربة الأولى التي كتبت عنها الأمم المتّحدة في شأن المخلفات النووية كانت في الولايات المتّحدة الأميركية، حيث أخذ بعض سكان المناطق التي تُدفن فيها النفايات النووية يصابون بالعقم وبأنواع السرطانات والأمراض الخطيرة، لذلك توقفت أميركا عن دفن هذه المخلفات في أراضيها وعمدت إلى شحنها ودفنها في كندا والمكسيك وبعض دول أميركا اللاتينية..
  بحسب مصطفى كمال طلبة المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتّحدة للبيئة، إن دفن طن واحد من النفايات النووية في إفريقيا والدول العربية لا تزيد تكلفته على 40 دولاراً، في حين أن هذا السعر في أيّ ولاية أميركية يتراوح ما بين 14 و 36 ضعفًا لهذا الرقم.. وفي أوروبا ما بين 15 و 20 ضعفًا، مشيراً إلى تورط وزراء وسياسيّين وشخصيات عالمية كان منهم زوج مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، بل أنشئت شركات لهذه التجارة، حيث وصل سعر دفن الطن عن طريق شركات إيطالية إلى 800 دولار، والتي تنقلها إلى إفريقيا بسعر 40 دولارًا للطن الواحد!.
وبحسب أخيم شتاينر مدير برنامج البيئة التابع للأمم المتّحدة في تصريح له أثناء المؤتمر الثامن للدول الموقعة على اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة الذي انعقد في العاصمة الكينية نيروبي (27-11-2006) لبحث سبل معالجة المشكلة التي تتفاقم على مرّ الأيام تحت مظلة ورعاية منظمة "برنامج البيئة التابع للأمم المتّحدة": "إن أغنى الدول في العالم تتخلص من قمامتها الإلكترونية الخطيرة في دول إفريقيا الفقيرة"، إذ تقدر المنظمة الدولية أن ما يزيد على 50 مليون طن من القمامة الإلكترونية يتمّ التخلص منها في إفريقيا سنوياً.
تسعى الدول النووية الراقية إلى طمر نفاياتها النووية في طبقات أرضية عميقة مؤلفة من الغرانيت لأن عمره أطول من عمر اليورانيوم. فالسويد مثلاً طوّرت طريقة علمية جديدة لتخزين نفاياتها النووية داخل طبقة الغرانيت لطمرها إلى الأبد: لئن كان عمر الإشعاع النووي الذي تنطوي عليه النفايات النووية هو 100 الف عام يبقى خلالها مصدراً قاتلاً لأشكال الحياة كافة قبل أن يستعيد اليورانيوم حالة الإشعاع الطبيعي التي كان عليها في مادته الخام، فإن تلك المدة الزمنية تصبح قصيرة أمام عمر الكتلة الغرانيتية" حيث سيتمّ طمر النفايات والذي يٌقارب 1,8 مليار عام. وموقع الطمر الذي بوشر العمل به منذ العام 1995 قريب من أوسكارشامن (جنوب شرق السويد) وتمتدّ أنفاقه على مسافة 4 كيلومترات وعلى عمق 500 مترٍ تحت سطح الأرض.
ثمة اتجاه لدى الدول النووية الغربية إلى جعل العالم العربي مقبرة لنفاياته النووية: تتصدَّر إسرائيل قائمة الدول التي ما تزال تمارس أنشطة تصدير مخلفاتها النووية خارج حدودها، وتعدّ إسرائيل بمثابة مجمع للنفايات السامة في العالم، فنجدها تلقي نفاياتها الصناعية في البحار، بما يهدّد بالخطر شواطئ مصر ولبنان وقبرص. ففي أحد نقارير البنك الدولي أن إسرائيل دفنت في العام 1998 نحو 48 ألف طن فقط من مجموع النفايات النووية والكيماوية البالغ حجمها 100 ألف طن، في الأماكن المخصّصة لها، وأن 52 ألف طن رفضت الإفصاح عن أماكن دفنها، وهي أماكن سرية أنشأتها إسرائيل في سيناء مضيفاً أن إسرائيل دفنت نحو 60 ألف طن من النفايات السامة في صحراء النقب في براميل غير محكمة الإغلاق يمكن أن تتسرب إلى مصادر المياه والزراعة، وأكثر الدول تعرضاً لأخطار هذه النفايات هي الأردن.
في لبنان لم يجرِ التأكّد بعد من أن آلاف براميل النفايات النووية طُمِرت سراً في ساحل كسروان ومنطقة غزير الواقعة على بعد 25 كم إلى الشرق شمال بيروت. وثمة  تقارير تتحدث عن أن إسرائيل حفرت أربعة أنفاق في الجولان لدفن نفاياتها النووية. كما أنها تدفن نفايات في أعماق البحر الأحمر وتهرّب بعضها إلى الأردن أو تسعى إلى دفنها في الصحاري  بعدما اكتُشف أكثر من محاولة.
وفي العراق ثمة 32 مليون طن من نفيات الآلة الحربية وخردة الدبابات والمدفعية والعجلات العسكرية والأعتدة والقذائف والصواريخ التي يدخل اليورانيوم في تركيب حشوتها، وينيف حجمها عن 100 ألف طن، مطمورة في 14 موقعاً في محافظتيْ الأنبار وصلاح الدين، وفي مواقع أخرى من محافظات الديوانية وميسان ونقرة السلمان وذي قار. وأُحصي في العراق خلال السنوات الخمس الماضية إصابة 63 ألفاً و923 شخصاً بالسرطان.
في مقابلة مع الجزيرة نت حذّر المقرر السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة سفيان التل من أن تقوم دول أوروبية بإيهام الدول العربية بمساعدتها ـ مقابل مبالغ مالية طائلة ـ على بناء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية في حين أنها في واقع الأمر لا تبيعها إلا "خردتها" النووية وتبني لها مفاعلات تتسرّب منها الإشعاعات النووية وتسبّب الأمراض للشعوب العربية (لا تظهر الآثار الخطيرة للمفاعلات النووية إلا على مدى طويل)، وتحوّلها إلى بلدان مستوردة للطاقة ومرهونة للطاقة النووية في حين أنها بلدان منتجة للطاقة ففيها أفضل مناطق العالم لإنتاج الطاقة الشمسية (1% فقط من الصحاري الممتدّة من شمال إفريقيا إلى الجزيرة العربية كافٍ لتزويد الكرة الأرضية كلّها بالطاقة الكهربائية).
في أقلّ من حياة إنسان واحدة (ولنفترض أنها 75 سنة، أي ثلاثة أجيال)  أنتجت البشرية من التلوّث وألحقت بالطبيعة أضراراً ما لم تفعله البشرية على مدى 400 جيل، أي 10000 سنة هي عمر الإنسانية المتحضرة. ومن سخرية الإنسانية في أرفع طور من أطوار تقدّمها الحضاري أنها خلقت هموماً لـ 400 جيل مقبل لكي يمحو آثار الدمار الذي ألحقته الحضارة الحديثة بالطبيعة.

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكرك على الإطلاع على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ، ولو إسما مستعارا ; للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو مراعاة أخلاق المسلم ; حتى لا نضطر لحذف التعليق
تقبل أجمل تحية
ملاحظة :
يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..